د.ك9.5
اللغة والوعي والثقافة راي جاكندوف
يمثّلُ كتابُ جاكندوف اللغَةُ والوَعيُ والثَّقافَة فتحًا علميًّا جديدًا على طريق تطوير نظريَّة شاملة للمعرفة تسمح بفهم أغنى للطبيعة البشريَّة. وهي نظريَّةٌ، إذ تتوسَّلُ بدراسة اللغة، تتناولها في ارتباطها العضويّ بسائر الظواهر المعرفيَّة المشَكّلة لبيئة الذّهن/الدّماغ البشريّ التي تُعنى بها مُجْمَلُ العلوم المعرفيَّة. والكتابُ خُروجٌ عن التصوُّرات السائدة في حقل النظريَّة المعرفية عمومًا واللسانيَّة خصوصًا، ومنها تصوُّراتُ تشومسكي أُستاذ جاكندوف. ومن هذا الجانب، يُمكن تشبيهُ حال التلميذ مع الأُستاذ، مع مُراعاة كلّ الفُروق الواردة، بحال أرسطو مع أفلاطون. إذ كان أرسطو من تلاميذ أفلاطون وتلقّى عنه الفلسفةَ في أكاديميَّة أفلاطون في أثينا، مثلَما كان جاكندوف من تلاميذ تشومسكي وتلقّى عنه اللسانيّات في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا. وفي الحالين معًا خالفَ التلميذُ الذي هوَ أكثرُ إنصاتًا إلى “عالَم التجربة” في “غناه” و”نسبيَّته” الأُستاذَ الذي هو أكثرُ تعلُّقًا بعالَم “المُثُل” و”الكَمال”. ومن مظاهر ذلك خلافٌ في مسألتين جوهريَّتين مترابطتَين. إحداهُما تصميمُ اللغة وتحديدُ مكوّناتها ومنزلة كلّ مكوّن وعلاقة المكوّنات بعضها ببعض؛ والأُخرى عَلاقةُ اللغة بسائر قُدرات الذّهن التي عُدَّتْ جُزءًا رئيسًا في البرنامج المبكّر للنظريَّة التوليديَّة، انسجامًا مع تطلُّعات جيل الثورة المعرفيَّة الأوَّل، بينَ أربعينيّات القرن الماضي وستّينيّاته، الذي رأى في اللغة “نافذةً على الطبيعة البشريَّة”. ويوضحُ الكتابُ أنَّ موقفَ تشومسكي من المسألة الأُولى يتلخَّصُ في أنَّ التركيبَ (syntax) هو المكوّنُ “المركزيُّ” و”التوليديُّ” الوحيدُ في تصميم اللغة، وأنَّ المكوّنين الصواتيَّ والدلاليَّ مكوّنان “تأويليّان” يَستمدّان تَأليفيَّتَهُما (combinatoriality) منه. ويستدلُّ الكتابُ مطوَّلًا على أنَّ هذا الموقفَ، الذي اتُّخذَ بلا حُجَج كافية وتحوَّلَ إلى ما يُشْبهُ المسَلَّمةَ، لا تُؤَيّدُهُ الوقائعُ التجريبيَّةُ، ومنها تلك التي بَنى عليها جاكندوف أُطروحةَ الدكتوراه بإشراف تشومسكي نفسه. وكذلكَ، أثَّرَ موقفُ “مركزيَّة التركيب” هذا تأثيرًا سَلبيًّا في المسألة الأُخرى، إذ أدّى إلى عَزْل اللغة عن سائر الملَكَات الإدراكيَّة والتصوُّريَّة التي تدْرُسُها العلومُ المعرفيَّةُ. ويدافع الكتابُ، خلافًا لموقف تشومسكي، عن تصميم للمَلَكة اللغويَّة ذي هندسة متوازية تتفاعلُ فيها ثلاثةُ مكوّنات لغويَّة (صواتيَّة وتركيبيَّة ودلاليَّة) مستقلَّة بأوَّليّاتها ومبادئها التأليفيَّة وذات قُدُرات توليديَّة متساوية. وما هذا التصميمُ في اللغة سوى مثال لتَحقُّق تصميم عامّ هو تصميمُ المعرفة البشريَّة الذي تُشَكّلُ تَصاميمُ سائر الملَكات غير اللغويَّة أمثلةً أُخرى لتَحقُّقه. والكتابُ غنيٌّ بالاستدلال على ما يسمح به هذا التصميمُ من دَمْج طبيعيٍّ وسَلس للُّغة في بيئة الذّهن/الدّماغ الشاملة، سواءٌ أكانَ ذلكَ من طريق ربطها بقضايا معرفيَّة-عصبيَّة كالوعي وتحليل اللغة وعلاقتها بالإدراك وتطوُّرها، أم من طريق دراسة عدد من الملَكات الجوهريَّة، كنظريَّة الذّهن والمعرفة الاجتماعيَّة التي تُهمُّ تخصُّصات متعدّدةً منها علمُ النفس وعلمُ الاجتماع المعرفيَّان بفروعهما وعلمُ الأعصاب والإنَاسةُ المعرفيَّةُ والفلسفةُ وغيرُها.