د.ك4.5
البدوي الاحمر محمد الماغوط
تك
من بيت فلاح، ومن صميم الأسرة العصامية المكافحة انطلق الماغوط منتزعاً نفسه عن صدر أمه ليكون هبتها للوجود، ثم من بلده التي تعرت من كرومها، وبادلت ذهب السنابل ومساكب الورد وأصداء سوق الذرة وأنين المقاصب والصفصاف بموسم واحد من القطن، كان كفن الرغيف وإعصار الصحراء العاتي على كل أمل بعودة الحياة.
ولما تهاوت الجذوع الهرمة، وسقطت عجائز الأشجار مودية بأعشاش الطيور، تقاوى على نفسه هذا الصقر المهاجر مرمماً جناحيه المهشمين منطلقاً من سفر عسير، وفضاء لم يدخر له أي شيء من الطقوس الرديئة.
من العبث أن أستخدم لغة الكلام من أجل التحدث عن تلك الحقبة من عمره، فلعل ما علق من مزق الثياب، ومن بقع الرعاف وتشقق الأقدام على التلال والمقالع والمغاور والكهوف وفروع الأشجار المكشرة على التخوم ما يروي بمنتهى البلاغة والإعجاز بداية التشرد والتمرد والإصرار على لقاء الخلود.
تتعدد أطياف الشعر عند الماغوط، تورف عرائشه على كل الجدران، وكمهندس بارع ما يني بوسع فتحة الفرجار على مدار واسع يشمل العالم كله والإنسان في كل مكان باعتباره آخر نتاجات الكون وأقدس من أن يداس.
وكبناء مرهف خبير يضع الطوبة على الأخرى لينصبه في عقد القبة الكونية، ولسان حاله يقول: لتسقط كل الحضارات أمام طفل يفغر فاهه لقطرة من الحليب. يحاول الماغوط بكل ما أوتي من قوة الإحساس، وصدق المشاعر، وعمق المعاناة أن يجعل من الأدب شعاعاً قوياً يسلطه على الحياة من أجل اجتثاث المأساة من جذورها، واستئصال آفات الزمن الردئ.
من غربته، من ثنايا وحدته، من كوابيسه المرعبة، والأشباح التي تقتحم لحظات رقاده القليلة، تطل عليك قصيدة الماغوط آخاذة جذابة، لا تتمالك نفسك من أن تنهال عليها كما ينهال الجائع البائس على الرغيف، والضال التائه على النجم الدليل تقرأها متسارعاً كما يتسارع نبض العدائين، متسائلاً: أمام أية حقيقة ستضعنا سخرية الماغوط، وماذا هناك أيضاً من المفقودات الثمينة التي دفعت به لأن يقف في صحن محكمة التاريخ يهز ضميره، ويمسك بتلابيبه صائحاً: أوجدها.