د.ك3.0
نيتشه اللعين محمد المزوغي
كو
فريدريك نيتشه، فيلولوجي كلاسيكي، هام بالروح اليونانية القديمة واعتبرها أسمى مثال يُحتذى به لاستعادة الوثبة الثقافية لألمانيا الصاعدة. لكن الروح اليونانية الأصيلة لا نعرف مداها ولا حدودها ولا أشخاصها، فهي مثل مدينة اصطنعها نيتشه من محض خياله، يقوم بتهديمها تارة، أو يُوسّع من حدودها، أو يُضيّقها بحسب مزاجه؛ فهو يُدخل فيها رجالا ثم يطردهم: الفلاسفة يجب أن يُبعدوا من الروح الإغريقية الأصلية لأنهم أعراض مرض الانحطاط؛ فنّ المسرحي يوربيدس له مواصفات مضادة للروح اليونانية؛ السقراطية التي تساوي بين الفضيلة والعقل والسعادة هي نقيضة لأقدم غرائز اليونان؛ في العلم المرح يقول بأن هذيان أفلاطون حول المثل لا علاقة له بالروح اليوناني؛ في “ما وراء الخير والشر” يذهب إلى أن مُنظّر المُثل أعلن نفيه لنمط الحياة اليونانية؛ فلسفته مشحونة مسيحية وعمّمت الأفلاطونية على الشعب؛ أبيقور أيضا لا ينتمي إلى روح الثقافة اليونانية، فلسفته، نظرا إلى أنها غريبة عن التشاؤم الديونيزي، فهي مثل الأفلاطونية توافق المسيحية. الإقصاءات تمتد لكي تصل حتى القَرنين اللذين اعتبرهما أوج العصر المأساوي: فالفلاسفة هناك لم يكونوا في مستوى غرائزها العميقة، غرائز الروح اليوناني الأصيل؛ بارمنيدس مثلا حين تأكيده على التجريد دخل في مرحلة أقل يونانية.
من نافل القول أن هذا التذبذب المتواصل لا يمكن إلاّ أن يقود صاحبه إلى الجفاء التام من العالم الذي هام به في فترة سابقة. وفعلا، في “العلم المرح”، يعلنها صراحة: «يجب علينا أن نتجاوز حتى الإغريق! (die Griechen überwinden)». إنّها تسكّعات في عالم الفيلولوجيا والتاريخ والفلسفة أذهلت معاصريه، تخمينات وصفها زميله الفيلولوجي الكبير، فيلاموفيتس مولّندورف، بأنها أحلام يقظة على شكل نبوءات قياميّة، ومن حيث هي كذلك فهي لا تعني الباحث الجدّي إطلاقا، لأن المسألة ذات رهان ثقافي خطير، والإشكالية تمس بؤرة العمل التاريخي ـ الفيلولوجي ومستقبله. فعلا، لو كان نيتشه نبيّا فحسب ـ يلاحظ فيلاموفيتس ـ لما رأيتُ أيّ جدوى في معارضته ودحض أفكاره «لكنّ السيّد نيتشه هو أيضا أستاذ الفيلولوجيا الكلاسيكية، وقد تَطرّق إلى مجموعة من المسائل الهامة جدّا في تاريخ الأدبيات اليونانية مُتوَهّما أنّ عن طريقه هو كفّتْ جوقة المسرح اليوناني أن تكون سرا غامضا؛ ظانّا أن إله التراجيديا اليونانية كلّمَهُ بوضوح ساطع؛ آتِيا بتأويل جديد لأرخيلوخس، يوربيدس واكتشافات باهرة من هذا القبيل». ليس من الصعب، نقض جميع هذه التوهّمات والبرهنة على أن أستاذ الفيلولوجيا هذا قد شيّد أحكامه «على عبقرية مُموَّهة وتحكّمات في علاقة بالجهل (Unwissenheit) وقلّة حبّ الحقيقة (und Mangel an der Wahrheitsliebe)». بدل أن يلتزم بمنهج البحث التاريخي الذي أرسِيَ من زمان وتم تقييده بعناية، فهو يمارس هواية النّبوة، وهي أشرّ مِهْنة في العالم، مهنة لا يُتقنها إلاّ الكذبة المنحطّون، فالسيد نيتشه، يقول فيلاموفيتس، مُتلحّفا بِثَوْب نَبِيّ إلهه ديونيزوس، يُبَشّر بمعجزات قد حَصلت وأخرى ستحصل قريبا: إنها [نبوءات] بنّاءة، دون شكّ، لكن فقط لأصدقائه في الإيمان.