د.ك2.5
المشهد التاريخي: كيف يرسم المؤرخون خارطة الماضي؟
“بما أن جل الناس يمشون في دروب طرقها غيرهم… فعلى العاقل دائمًا أن يحاكي أكثرهم تفوقًا، فإن لم تمكنه قدراته من بلوغ ما بلغوه، فإنه على الأقل قد اقتفى أثرهم”.
مكيافيللي، الأمير
يقدم جون لويس غاديس رحلة حول عمل المؤرخ، والمنظور التاريخي وكيف يكون مفيدًا. يتحدث عن المشاكل التي قد يعانيها المؤرخ لكي يصل إلى الحقيقة التاريخية، محاولاً تقريب الإجابة على سؤال كيف يرسم المؤرخون خارطة الماضي؟ وكذلك الجدل القديم حول ما إذا كان التاريخ علمًا، وما أوجه الشبه بين التاريخ والعلوم الاجتماعية الأخرى والعلوم الطبيعية؟
ينقسم الكتاب إلى تصدير وثمانية فصول، والمميز في الكتاب هو طرحه الجذاب وجمعه بين أمثلة مختلفة متنوعة تاريخيًّا. يختار المؤلف لوحة كاسبر ديفيد فريدريش “طواف فوق بحر من الضباب” لكي يعبر بها عن جوهر فهمه للوعي التاريخي، فاللوحة في رأي غاديس استعارة لوقفة المؤرخين، مولين شطر قبلتهم للماضي لا المستقبل، كما يفعل علماء الاقتصاد والاجتماع والسياسة، لكن اللوحة تحدث انطباعات متناقضة، إذ توحي بسيادة الفرد على المشهد في قمة الحافة الصخرية العالية، لكنها توحي أيضًا بضآلة الفرد في آن واحد.
أضف إلى ذلك محاولة الرجل في اللوحة تبين أحداث التاريخ بين الضباب والسديم، لكن دارس الحاضر لا يملك ادعاء امتلاكه فهم الأحداث الجارية مقارنة بالمؤرخ الذي يدرس الماضي، وهذا عائد إلى أن مجال الرؤية اليومية لن يتجاوز نطاق حواسك، أما مؤرخ الماضي فيملك مساحة من الأفق الأوسع، هذا المنظور الأوسع الذي يقدمه التاريخ يزيد من إدراك الهوية للمؤرخ وللقارئ العادي.
غاديس يريد أن يجعل المؤرخ في صراع بين صورتين: الشعور بالضآلة، والشعور بالسيادة، فسواء كنت من حاشية أمير تدرك تفاهة قدرتك على إحداث أثر حاسم في مسار التاريخ، وكذلك لو كنت مؤرخًا قد يصعب عليك الإمساك بكل ما حدث في الماضي. الحل هنا هو تمثل الواقع، أن تتجاوز التفاصيل وتبحث عن الأنساق الكبرى، هذا التمثيل هو الذي يعيد للمؤرخ ثقته أمام الأحداث التاريخية، هذا ما فعله مكيافيللي في كتابه الأمير، تجرأ رجل من الحاشية أن يضع قواعد يحكم بها الأمراء.
كتب مكيافيللي الأمير وقال بلا تواضع مخاطبًا لورينزو دي ميديتشي: “تذكر أنه ليس هناك من هبة أقدمها لك أعظم من أن أمنحك القدرة على أن تفهم، في مدة فترة قصيرة جدًا، كل ما تعلمته وفهمته في سنوات طويلة بعد مشاق كثيرة خضتها ومخاطر”. هذا التكثيف الذي عبر عنه صاحب الأمير هو أحد هدايا الوعي التاريخي.
وبرغم أثر الرؤى ما بعد الحداثية في مجال التاريخ، والتي أسهمت في زيادة الشعور بنسبية كل الأحكام التاريخية، وأشعرت المؤرخ أن الأرض التي يقف عليها لينة القوام، وهو يشرح هذا المعنى بطريقة مميزة فيقول: لن يفيد أميرًا أن نقول له إن الماضي يقدم دروسًا أو إنه في بعض الأحيان لا يقدم دروسًا على الإطلاق، عبر عنها مكيافيللي بقوله: “يستطيع الأمير أن يكسب الناس بطرق عدة، لا يمكن أن نرسي لها قواعد لأن الطرق تختلف باختلاف الظروف”. لكن الطرح العام مازال صالحًا، وهو أن الأمير يجب أن يحرص على ود الناس لأنه لا خير في عداوتهم. هنا لا يعيد التاريخ نفسه، ولا يصبح التاريخ دليلاً إرشاديًّا للمستقبل، بل يكون مجالاً لتكثيف الخبرة بالحاضر، وهذه المعالجة تعيد الثقة لعمل المؤرخ من حالة التفكيك أو التقويض في ما بعد الحداثة.
يستعير أيضًا تشبيه التاريخ بخريطة، ويرد على فكرة ما بعد الحداثة بقوله ليس من الحكمة أن ينكر البحارة وجود الخط الساحلي البريطاني لكوننا لا نستطيع أن نحدد طوله بدقة، ولا من الحكمة أن يقرر المؤرخون أنهم لا يستطيعون أن يعرفوا أي شيء عما حدث في الزمان والمكان؛ لأننا لا نملك أسسًا مطلقة لقياسهما.