مرحبا بكم في موقع مكتبة الكويت ( المكتبة هي معبد المعرفة ومنارة الفكر بين رفوعها تتقاطع الافكار وتتلاقي العصور ) الحجز والاقتراحات واتساب 50300046 الشحن الي جميع المناطق ...
أن تكتب كما لو كنت ميتًا
التصنيف : روايات مترجمة
دار النشر : تكوين الكويت
ايمان سعد
أخيرًا تحلُّ اللحظة التي توهَبُ فيها حيزًا من مكان، وشيئًا من الهدوء، لربما ساعة، على الأرجح ساعتان، زقزقة العصفور عند نافذةٍ مفتوحة، ولا بدَّ لك أن تذهب إلى تلك الغرفة الأخرى وتعود إلى حلِّ المعضلة التي لا تنفك تحاول حلَّها. من الصعب التصديق كم من الوقت مرَّ عليك منذ آخر مرة حاولت فيها تفكيك تلك المعضلة، تلك المعضلة التي هي معضلةُ صداقة.
الطقس الصيفي خارج النافذة في الغرفة الأمامية، حيث يقيم مكتبي الآن، يأخذني إلى لوحة مانيه الصغيرة «الجنازة». لربما هي الحالة النفسية التي تعكسها السُّحب، شيءٌ يتعلَّق بالضوء. عند قاع التل، لطخاتٌ من موكبٍ كامد من اللباس الأسود خلف نعشٍ محمول على عربة يجرُّها حصان. الأشجار ضرباتُ فرشاةٍ خضراء غامقة على جانب التل. هي لوحةٌ لا أنفكُّ أفكِّر فيها منذ سنوات. كنت قد ألصقتُ نسخةً رمادية مطبوعة منها على الحائط أعلى مكتبي حين كان مكتبي في الغرفة الأخرى. وفي الماضي، كنتُ أحجُّ إلى متحف (ذ مِت) كي أزور اللوحة، رضيعتي تتدلى منِّي أو نائمة في عربة الأطفال. بورتريهات مانيه الضخمة المحيطة باللوحة تقزِّمها، تلك البورتريهات الضخمة المأسورة بتأثير فيلاسكيز، بخلفياتها المعتمة، بالأسود المخمليِّ في قبعة المغني الإسبانيِّ ومعطفه، بالدم الصادم في كاب مُصارِع الثيران. المتحف مغلقٌ منذ أشهر، وأفكِّر في تلك اللوحات المعلقة وحدها هناك، بلا راءٍ يمعن نظره فيها. يا ترى هل غطُّوها، كما يُغطَّى الميت بالكفن؟
يُقال إنَّ «الجنازة» تصوِّر جنازة شارل بودلير في الثاني من سبتمبر 1867. قد يُفسَّر غياب حشدٍ من المعزِّين بوجود كثير منهم خارج باريس في إجازة، أو خوفًا من هبوب عاصفة مرتقبة. مانيه كان ضمن المعزِّين القلة الذين حضروا. ورغم أنَّ بودلير قضى آخر سنوات حياته في دار رعاية في باريس، فقد عاش قبلها مغتربًا عن المدينة، في منفاه المدقع في بلجيكا. وتعويضًا عن نزه المشي التي كان يتشاركها مع صديقه في حديقة تويلوري، كان مانيه سيراسل بودلير شاكيًا من الاستقبال الصادم للوحاته في «الصالون»، حيث سبق أن رُفضت أعماله، وكيف انقضَّت عليه الصحافة بشراسة وجعلت منه أضحوكة، وصوَّروه ولوحاته على أنها غبية ومقيتة وقبيحة. بودلير كان قليل الصبر تجاه توق صديقه البرجوازيِّ للاستحسان. وفي ردٍّ لاذع، من عام 1865: «هل تظن أنك أول رجلٍ يجد نفسه في موقف كهذا؟ هل أنت أكثر عبقرية من شاتوبريان وواغنر؟ ألا تعرف كمَّ الاستهزاء الذي نالاه من الناس؟ لكن لا أحد منهما مات من الاستهزاء».
لم يُنهِ مانيه اللوحة، اكتشفوها في مُحتَرفه بعد مماته. أتساءل كم مرةً نظر إليها؟ وهل حين كان ينظر إليها، كان صديقه لا يزال على باله؟ لربما لم يُنهِها لأنَّ أمرًا ما ظلَّ عالقًا، أمرًا لربما يكون شخصيًّا بشأن هذه اللوحة.
في رواية هيرفي غيبير «إلى الصديق الذي لم ينقذ حياتي» (A l’ami qui ne m’a pas savvé la vie)، التي تؤرخ تشخيصه بالإيدز في تسلسلٍ زمنيٍّ، يكتب غيبير أنَّ بعد وفاة صديقه الشهير ميشيل فوكو -المذكور في الرواية بالاسم المستعار موزيل- سيُقْدِم شريك حياته، المبنية شخصيته إلى حدٍّ كبير على الناشط في قضية الإيدز دانييل ديفير، على نشر إعلانات في أكبر صحيفتين حتى يسوِّق طقوس «رفع الجسد»، الطقس الذي سيُرفَع فيه النعش إلى الساحة خارج مستشفى (بيتي-سالبترير). فقد انتابه القلق حول حضور مشيعين أقلَّ عددًا ممن حضروا جنازة مفكِّر فرنسي شهير آخر مات قبل عدة سنوات، في إشارة إلى موت رولان بارت في 1980، والذي عانى في المستشفى نفسها لشهر بعد أن دهسته عربة مصبغة في شارع من شوارع باريس، وعُثر عليه في الشارع دون إثبات هوية.
مفكِّران يتنافسان حتى في الموت. وهذان الزميلان في كلية فرنسا كانا معلمين ناصحين لغيبير، وأيضًا ضحية خيانته لهما كتابةً: حين نشر غيبير في إحدى مذكراته رسالة بارت الغرامية له، وحين كتب في روايته عن النزعة السادية المازوخيَّة الجنسيَّة لدى فوكو وموته من مرضٍ مجهول سيُعرَف لاحقًا باسم الإيدز. كلا المعلمين مات بعيدًا عن أضواء الشهرة في المستشفى نفسه، المستشفى الذي كان في الأصل مصحًّا عقليًّا للنساء، وحيث ارتكز فوكو في عمله البحثيِّ على تاريخ الجنون. ماتا بعيدًا عن أضواء الشهرة لأنَّ هكذا يموت المرء. ومع ذلك، سعى آخرون إلى ضمان إرثٍ على هيئة حشد ضخم من المعزين، وذلك نيابةً عن الفيلسوفيْن اللذين نظَّرا أنَّ المؤلف لا بد أن يختفي في نصِّه؛ أولهما بارت في مقاله «موت المؤلف» في 1967، من ثم فوكو الذي بادل حجة بارت بحجة أخرى بعد عامين، في مقاله «ما هو المؤلف؟»
أوْضحُ تمييزٍ قرأته بين المقالين المتقارعين أنَّ بارت يريد قتل المؤلف، بينما يريد فوكو من المؤلف أن يتلبَّس هيئة رجلٍ ميِّت.