د.ك3.5
اعترافات ولعنات إميل سيوران
تك
أعتقدُ أنّ التعامُل بنفس الطريقة مع الشاعر والمفكّر خطأٌ في الذوق. ثمّة مجالات ينبغي على الفلاسفة ألاَّ يقتربوا منها. إنّ تقطيع أوصال قصيدة على غرار تفكيك نسقٍ فلسفيّ جُنحة بل هو تدنيس. المُثير للفُضول أنّ الشّعراء يبتهجون حين لا يفهمون ما يُرْطَنُ به في شأنهم. الرّطانةُ تُثير زَهْوهم وتُوهِمُهم بالارتقاء. وهذا الضّعف ينزل بهم إلى مستوى شارحيهم. العدمُ في نظر البوذيّة (بل في نظر الشّرق عمومًا) لا يحمل تلك الدّلالة الكارثيّة التي ننسبها إليه. إنّه جزءٌ من تجربة التَّمَاسِّ مع النُّور، أو هو إذا شئنا حالةٌ أبديّة من الغياب النّورانيّ والفراغ المشعّ: إنّه الوُجود وقد انتصر على كلّ صفاته، أو لنقل إنّه لا-وُجودٌ فائقُ الإيجابيّة، سخيٌّ بسعادة لا مادّة لها ولا قوام ولا نقطة ارتكاز في أيّ عالَم من العوالم. تُشبعني الوحدة إلى حدّ أنّي أرى في أقلّ المواعيد شأنًا عمليّةَ صَلْب. الفلسفة الهندوسيّة تبحث عن الخلاص. أمّا اليونانيّة باستثناء بِيرُّون[1] وإبيقور[2] وبعض الذين يصعب تصنيفهم، فإنّها مخيّبة للآمال: إنّها لا تبحث إلاّ عن…الحقيقة. قُورِنت النيرفانا بمرآةٍ لم تعد تعكس شيئًا. مرآة غدَتْ إذَنْ أبدًا نقيّة، أبدًا بلا وظيفة. أَطلق المسيحُ على الشّيطان اسم: «رئيس هذا العالم»، وأراد بولس الرّسول المُزايدة فأحسن التّسديد: «إله هذا الدّهر». حين يُشير حُجّتان مثل هذين بالاسم إلى من يَحْكُمُنا، هل نملك نحن الحقّ في لعب دور المحرومين من الإرث؟ الإنسان حُرّ إلاّ حين يتعلّق الأمر بما هو عميقٌ فيه. على السّطح هو يصنع ما يريد، أمّا في طبقاته المُعتمة فإنّ «الإرادة» لفظٌ خالٍ من أيّ معنى. كي نجرّد الحُسّاد من كلّ سلاح علينا أن نخرج إلى الشّارع على عُكّازتين. لا شيء يُؤَنْسِنُ بِقَدْرٍ مَا أصدقاءَنا وأعداءَنا مثل مشهد سُقوطِنا. نحن على حقّ حين نعتقد أنّنا شُهودٌ في كلّ عصرٍ على غيابِ آخِر آثار الفردوس الأرضيّ. المسيح من جديد. جاءَ في إحدى الروايات الغنوصيّة أنّه صعد إلى السّماء نكايةً في المحتوم[3]، كي يغيّر مواقعَ الكواكب ويمنع استطلاعَ النجوم. في كلّ هذا الهرج والمرج، ماذا حدث يا ترى لنجمِي المسكين؟ اِنتَظَرَ كانط أرذل العمر كي يتبيّن عتمة الوجود ويعلن عن فشل كُلِّ “عِلْمِ إلهيّاتٍ” عقلانيّ. -آخرون أوفر حظًّا منه انتبهوا إلى ذلك قبل أن يشرعوا في التّفلسُف أصْلاً. لكأنّ المادّةَ وهي الغيورُ من الحياة، لا تدّخر جهدًا في التّجَسُّسِ عليها للعثور على نقاط ضعفها ومعاقبتها على مبادراتها وخياناتها. وذلك لأنّ الحياة ليست حياةً إلاّ من خلال خيانتها للمادّة. أنا منفصل عن كلّ إحساساتي. أنا عاجز عن فهم كيفيّة حدوث ذلك. أنا عاجز حتى عن معرفة مَنْ يُكابد تلك الإحساسات. ومن جهةٍ أُخرى، من يكون هذا الأنا الذي يفتتح هذه الجُمَلَ الثلاث؟ فَرَغْتُ للتّوِّ من تَصَفُّحِ سيرةٍ ذاتيّة. فكّرتُ في أنّ الشخصيّات المذكورة لم يعد لها وجودٌ خارج هذا الكتاب. بدت لي هذه الفكرة فوق كلّ قدرةٍ على التحمّل إلى حدّ أنّي اضطجعتُ كي أتجنّب الإغماء. بأيّ حقّ تلقون في وجهي بحقائقي؟ أنتم تنسبون إلى أنفُسكم حريّةً أُنكِرُها عليكم. كلُّ ما تدّعون صحيح، أعترف بذلك. إلاّ أنّي لم أسمح لكم بأن تكونوا صُرحاء تُجاهي. (بعد كلّ سورة غضب، إحساس بالخزي يصحبه ذلك الزّهو الثابت: «هذا على الأقلّ من صميم الحياة». يعقبه هو أيضًا إحساس بالخزي أكبر بكثير.) «أنا جبان، لا قدرةَ لي على تَحَمُّلِ عذابِ أن أكون سعيدًا». يكفيني كي أنفذ إلى أعماق أحدهم، كي أعرفه حقًّا، أن أراقب ردّ فعله أمام اعتراف كيتس[4] هذا. إذا لم يفهم فورًا فلا جدوى من المواصلة. الترويع – يا لها من خسارة أن تكون هذه الكلمة قد اختفت مع الدُّعاة الكِبار. لمّا كان الإنسان حيوانًا ممراضًا، فإنّ لأيٍّ من أقواله وأفعاله قيمة العَرَض. «أنا مندهشٌ لِمَوْتِ رجُلٍ مرموقٍ مِثْلِه»، هكذا كتبتُ إلى أرملةِ أحَدِ الفلاسفة. لم أكتشف حماقةَ رسالتي إلاّ بعد إرسالِها، ولو ألحقتُها بأُخرى لجازفتُ بارتكابِ حماقةٍ ثانية. حين يتعلّق الأمر بالتّعازي فإنّ كلّ ما هو ليس كليشيه، يقترب من قلّة الأدب أو الشُّذوذ. كانت ليدي مونتاغيو[5] في السّبعين حين اعترفت بأنّها كفّت عن النّظر إلى وجهها في المرآة منذ أحد عشر عامًا. غرابة أطوار؟ ربّما، لكنْ فقط، في نظر أولئك الذين لم يختبروا محنة اللّقاء االيوميّ بخِلْقَتِهم. لا أستطيع أن أتكلّم على غير ما أشعر به. إلاّ أنّي لا أشعر بشيء في هذه اللحظة. كلّ شيء مُلغًى في نَظري مُعَلَّقٌ بالنسبة إليّ. أحاول أَلاَّ أستمدّ من ذلك مرارةً ولا عُجْبًا. جاء في القانون الحقيقيّ[6]: «خلال حيوات عديدة عشناها كم من مرّةٍ وُلِدنا عبثًا ومتنا عبثًا! »: كلّما تقدّم الإنسان، قَلَّ مَا يمكنه اعتناقه. أفضل طريقة للتخلّص من عدوٍّ أن تمدحه في كلّ مكان. سيُنقَلُ إليه ذلك فيفقد القدرة على الإساءة إليك. هكذا تكون حطّمتَ دافعه. سيواصل التهجُّم عليك لكن بلا حماسة ولا دأب، لأنّه كفَّ لا شعوريًّا عن كراهيتك. إنّه مهزوم يجهل هزيمته. نعرف مرسوم كلوديل[7]: «أنا مع كلّ جوبيتر ضدّ كلّ بروميثيوس». مهما تكن درجةُ فقدانك كلَّ وَهْمٍ يتعلّق بالثّورة، فإنّ من شأن مثل هذا الغُلُوّ أن يُوقظ الإرهابيَّ النّعسان فيك. لا مؤاخذةَ لنا على من شتمْنَا. بل إنّنا على استعداد للاعتراف لهم بكلّ ما يمكن تخيُّلُه من مزايا. المؤسف أنّ هذا الكَرَم لا يوجد إطلاقًا لدى المشتوم. لا آبه لكلّ من يستغني عن الخطيئة الأصليّة. أمّا أنا فألجأ إليها في كلّ الظّروف، ولا أرى كيف يمكنني من دونها أن أتجنّب قُنوطًا بلا انقطاع. كاندينسكي[8] يؤكّد أنّ الأصفر لونُ الحياة. …نفهم الآن لماذا يؤلم هذا اللونُ العيونَ إلى هذا الحدّ. حين يتحتّم علينا اتّخاذ قرارٍ حاسم فإنّ من أخطر الأُمور أن نستشير الغير. وذلك لأنّه باستثناء بعض التّائهين، لا أحدَ يريد لنا الخير بصدق. اختراعُ كلماتٍ جديدة يبدو في نظر السيّدة دو ستايل[9] «أوضح الأعراض الدالّة على عُقْم الأفكار». تبدو هذه الفكرة اليوم أصحّ ممّا كانت في بداية القرن الماضي. وكان فوجلاس[10] قد قال منذ 1649: «لم يعد مسموحًا لأحدٍ بابتكار كلمات جديدة وإن كان الملك». على الفلاسفة أكثرَ من الكتّاب أن ينظروا في هذا المنع حتّى قبل أن يشرعوا في التفكير. نتعلّم في ليلةٍ بيضاء أكثر ممّا نتعلّم في سنةٍ من النّوم. الأحرى أن نقول إنّ الضّرب المبرح أفْيَدُ بكثير من القيلولة. آلام الأُذنين التي عذّبت سويفت[11] كانت جزءًا من أسباب كراهيته البشر. لم أهتمّ إلى هذا الحدّ بعاهات غيري إلاّ رغبةً في العثور فورًا على نقاط مشتركة بيننا. يُخيّل إليّ أحيانًا أنّي قاسمتُ من أُعجِبتُ بهم كُلَّ ما عانوه من ويلات. هذا الصباح، بعد أن استمعتُ إلى فلَكِيٍّ يتحدّث عن مليارات الشُّموس، عدلتُ عن غسل وجهي. ما فائدة الاغتسال من جديد؟ القَلَقُ شكلٌ من أشكال الحيرة فعلاً، لكنّها حيرةٌ مُطَهَّرَةٌ من الخوف. إذ أنّنا حين نَقْلَق لا نخشى شيئًا باستثناء القَلَقِ نفسه. يَمُرّ أَيٌّ كان بمحنةٍ فيتعالَى على من لم يمرّ بها. إنّه عُجْبُ المبضُوعين الذي لا يُحْتَمل. في معرض باريس-موسكو. قشعريرةٌ أمام بورتريه ريميزوف[12] شابًّا لإيليا ريبين[13] بلغ ريميزوف السادسة والثمانين حين عرفته. كان يقيم في شقّة شبه خالية، ما انفكّ بوّابُ العمارة يحوك الدسائس لِطرده منها، طمعًا في تأجيرها لابنته، متعلّلاً بأنّها بؤرة تلوُّث وجُحْر فئران. هكذا بلغ الأمر بِمَنْ كان باسترناك يرى فيه أعظم أصحاب الأسلوب في روسيا. الفرقُ الشاسع بين الشيخ الهرِم البائس المنسيّ، وصورة الشابّ اللامع الماثل أمامي، أَفْقَدَنِي كلّ رغبة في زيارة بقيّة المعرض.