د.ك5.5
الأم _ مكسيم غوركي
“الأم” ليست فصلاً من فصول كفاح شعب في سبيل حريته، ولا هي صورة عن نضال طبقة عاملة تريد مكاناً لها تحت الشمس، وتطالب في الحياة بحق لها، وهي ليست قصة العمال في كل مكان، في كل بقعة من بقاع العالم، هؤلاء الذين أدركوا دورهم التاريخي الأعظم في تحرير المجتمع، أو هم لا يزالون يتحسسونه تحسساً، ولعلهم في بعض الأحيان لم يدركوه بعد، وهي ليست قصة إنسانية جمعاء، في صعودها المستمر نحو إنسانية أكثر احتمالاً، ونحو حقيقة أكثر كمالاً، ونحو حقيقة أكثر كمالاً، ونحو حقيقة أكثر عظمة، ونحو عقل أعظم شأناً وحرية. إنها في الحق كل ذلك، وبالإضافة إليه قصة “امرأ’”، قصة “أم” من أفراد الطبقة العاملة، “امرأة” قضت جل سني عمرها حتى الأربعين، أو يزيد، في حياة لا معنى لها ولا هدف، قضتها في الظلمة القاتمة كما عبرت هي نفسها عن ذلك، لا تكاد تدرك حتى حقيقة إيمانها بالله الذي تعبد حتى يكون لها عقيدة سياسية تدافع عنها، ومع ذلك فإن الفعالية الثورة الخائض غمارها فتاها ورفاقه المتكتلون حوله قد اجتذبتها إليها شيئاً فشيئاً، وجعلت منها بالتدريج مناضلة إنسانية فذة، وإحدى بطلات العالم الجديد الذي ما برح في دور المخاض. وغوركي لم يبدع ذلك أو ينسجه من خيوط مخيلته نسجاً، بل إن أبطاله في الحقيقة أبطال موضوعيون، يلتقي المرء بهم في الحياة عند كل خطوة من خطواته. وهو نفسه قد عرف نماذجهم في نيجني نوفغورود في شخصية العامل “بيوتر زالاموف” وشخصية أمه، وعندما كتب قصتهم لم يتوخ من ذلك أن يبين الأثر المتعاظم للفكرة العمالية الطليعية في جماهير العمال الواسعة فحسب –ولو فعل ذلك ما كان أكثر من تزيين لعقيدة سياسية ليس غير- بل أراد على العكس، وههنا تكمن جدارته، أن يلقي ضوءاً ساطعاً على إشعاع هؤلاء الأبطال الاشتراكيين الذين لم تفقرهم الطاعة العمياء لعقيدة مجردة، بل على العكس أغناهم الإيمان بقوى الشعب العميقة الخلاقة، والخلاص لقضيته الكبرى، ومحبة الإنسانية والعدالة حيث يلتقي ربما للمرة الأولى في التاريخ، العقل والقلب والإرادة جميعاً على صعيد واحد. إنه يريد أن يبين كيف تستطيع سائر القوى الشعبية أن تنقلبن في هذا النضال المباشر لتحرير الإنسان، قوى ثورية عاتية إذا ما بلغت الوعي السياسي الضروري لها، هذا الوعي الذي يشتق أبطال “الأم” منه حقيقتهم التاريخية، وعظمتهم التاريخية أيضاً. ولذلك لا تقوم الرواية على عقدة محبوكة تنتهي عندما تجد لها حلاً، ولا على مصائر فردية معينة يروي قصتها، بل بالأحرى على تطور العلاقات الطبقية التي تعكس المصائر الفردية تناقضاتها العميقة، وعلى فعل بنية اجتماعية معينة في طبيعة البشر، وفي أسلوب حياتهم وتفكيرهم وأندريه وتوقيف الأم، الإيمان بالنصر النهائي الذي ستحرزه القيم الإنسانية التي يحملها أولئك الأبطال في نفوسهم ويدافعون عنها، ذلك أن المصير الفردي لكل إنسان لم يعد بعد اليوم مستقلاً قائماً بذاته، بل أضحى مرتبطاً كل الارتباط بالحركة الثورية، ودوره قائم في تقويتها وتوطيدها، فإذا حقق هذا الدور فقد بلغ الغاية من وجوده، مهما كانت خاتمته بعد ذلك، حتى إذا تم ذلك ارتفع نشيد الحياة مغرداً في قلب بشائع الحياة البورجوازية هذه، الكائنات جميعاً وتوافقها، الكائن الإنسان مع الكائن الإنسان، ومع كل الكينونة التي يعيش فيها، نشيد يدعو إلى تحقيق حياة معقولة سعيدة يكون العمل قلبها النابض، ويكون سيدها الإنسان الفعل، الطافح خيراً، الملتفت نحو الغد أبداً. وبذلك يكون غوركي قد حقق، للمرة الأولى، في أروع صورة وأكملها، دور الأديب الاجتماعي كما يجب أن يكون. ولا ريب أن “الأم”، في حمى النضال الثوري، جزء لا يتجزأ من هذا النضال جاء بعد خيبة ثورة 1905، حين كانت الموجة الثورية في جزر وانكماش، في وقت بدأ اليأس يدب في قلوب الكثيرين، يبعث الإيمان في النفوس من جديد، وينير آفاق المستقبل، ويجند للنضال القوى المبعثرة.