د.ك3.5
“الحجاج والمغالطة” الدكتور رشيد الراضيي فطبعة ثانية
كو
لقد كان الغرض المعلن من نشر كتاب “الحجاج والمغالطة” هو المساهمة في ما يبذل من جهد غايته الرفع من الرصيد المعرفي والمهاري والتربوي المتعلق بأمور التواصل الحواري وجعل هذه الممارسة (التواصلية الحوارية) وثيقة الصلة بالقواعد التي تضمن حصولها منضبطة بقيم العقل ومعاييره المعتبرة.. وقد أكدنا في مواضع عدة من الكتاب على مسلمته الكبرى التي نعيد صوغها هاهنا بالقول إن الجهد الذي يُبذل في تلمس طريق المعقولية في كل باب من أبواب التفكر في شؤون النظر أو العمل لن يكون ذا مفعول يذكر أو ثمرة تُشكر ما لم يُحَط هذا الجهد بسياج من الضوابط المنهجية المنطقية التي تضمن سريان التحاور بوجه يتسدد فيه السير ويُقتصد فيه الجهد ويُتحرز فيه من شطط القول وخبطه، ومن عبث القصد وخبثه، ضوابط تحمل المتواصلين المتحاورين حملا على التزام سبيل الهدى في حوارهم فيسلكون “سويا على صراط مستقيم” ولا يندفعون “مكبين على وجوههم”.
وقد جرت في واقع الأمة العربية منذ صدور الكتاب في طبعته الأولى (2010) مياه كثيرة تدفقت سيولها في خضم عقد مرت سنواته حافلة بالأحداث السياسية الهائلة والتقلبات الاجتماعية العاصفة، والتي كانت مناسبة لقراءة الكتاب على أضواء كاشفة، بالنظر إلى ما واكب ذلك من صنوف المجادلات والمناقشات وتفاعل الآراء المتخالفة وتراشق المذاهب المتناكفة التي أثمرتها تلكم الأحداث، والظاهر أن الخلاصة الكبرى التي يخلص إليها المتابع هي أننا بالفعل بحاجة إلى مزيد من منطق الحوار ومنهجه، وبحاجة إلى عقل في الحوار أكثر من حاجتنا إلى حوار في العقل. فلا سبيل إلى الخلاص دون تعزيز الأرضية الصلبة الكفيلة بإسناد مذهبية الحوار العاقل وتقوية الأسس الكفيلة بإشاعة ثقافة الحجاج المستبصر بقواعد المنطق وأصوله الراسخة، وإلا فإن الساحة ستظل مستباحة من قوى التدمير والخرَق الفكري والسلوكي.
لقد زاوجنا في تضاعيف الكتاب بين الحديث عن الحجاج العاقل وعن نقيضه المتمثل في المغالطة أو السفسطة أو ما اصطلحنا عليه أحيانا بالحجة المعوجة، والمقصود بهذه الاصطلاحات عموما مجمل المسالك التي تُفَرط في ضابط أو أكثر من ضوابط المعقولية المتعارفة وتركب مراكب غير حميدة في مسعاها “الحواري” فيكون الغرض المحرك لأربابها ليس هو عرض الرأي في معرض من الآراء المتخالفة وبيان ما يحتف به من مزايا ترقى به في سلم المعقولية، بل فرضه فرضا لا تُقبل فيه معارضة ولا مخالفة، أو إحاطته بضروب من التمويهات الحالية أو اللفظية التي تصرف أذهان السامعين عما يشوبه من خلل أو خطل.. كل ذلك بغرض التهرب من أعباء التدليل التي عليها التعويل في ميدان التحاور العاقل.. إن درس وجوه السفسطة في معرض الحديث عن الحجاج هو مسلك دارج في أدبيات النظر المنطقي منذ أرسطو وإلى يوم الناس هذا، وهو مسلك وجيه على اعتبار أن كمال التدبير في نصرة العقل لا يحصل بغير التصدي لنقيضه المتمثل في ضروب الشغب والسفه والخرَق التي تحرف النظر عن سواء السبيل.