د.ك3.0
الطريق الطويل إلى عالم أكيرا كوروساوا كامل يوسف حسين
ربّما لا يوجد مشتغل في عالم الفكر والأدب لا يعرف كامل يوسف حسين، الأديب والمترجم المصري، وذلك من خلال مكتبة ترجماته التي زادت عن ستين كتاباً حتى الآن، وقد تنوّعت هذه الكتب ما بين الفلسفة والفكر والأدب، ولكنه ليس تنوّع عشوائي بمقدار ما يشبه مشروعاً ثقافياً فكرياً وتنويرياً في آن واحد، حيث قرأنا له مترجمات عن الاغتراب، وفلسفة الموت في الفكر الغربي، بالإضافة إلى مشروعه في ترجمة الأدب الآسيوي والياباني الحديث والمعاصر بشكل خاص، وكنا تعرّضنا في بيان الكتب إلى آخر ترجماته عن ثقافة البوشيدو في اليابان.
مؤلّفه الجديد “الطريق الطويل إلى عالم أكيرا كيروساوا” هو عبارة عن قراءة شعرية بصرية لحياة وأعمال هذا الرجل المهم في تاريخ السينما العالمية، وذلك من خلال حكاية جاءت من الصدفة في مطلع السبعينيات، حيث إنه حضر عرضاً لفيلم “راشومون”، ومن هذا الفيلم سيبدأ اهتمامه بتتبع أعمال كيروساوا السينمائية، فيذكر أنه لم يدع عرضاً لفيلم من أفلام كيروساوا يفوته و”إن بعدت المسافة وطال الطريق، وما علمت بشريط أو بقرص مدمج إلاّ بادرت إلى شرائه أو استعارته” وسيحدث بعد فترة أن يترجم المجموعة القصصية “راشومون” للقاص الياباني الشهير رايونسكي أكوتاجاوا، ويذكر أن دافعه إلى ترجمة الكتاب هو الرغبة في أن يشاركه القرّاء محاولة سبر أغوار لغز استعصى عليه حلّه، وهو كيفية تحقيق فيلم سينمائي قصّته لا تتجاوز 26 صفحة من القطع الصغير، علماً أنه حاز الجائزة الكبرى في مهرجان البندقية عام 1951، ومع هذا الفوز الكبير انفتح الباب واسعاً لمعرفة عالم كورساوا نفسه والسينما اليابانية. وكإجابة على هذه الحيرة في إنتاج فيلم عن قصّة قصيرة، فإنه يرى أن كيروساوا تمكّن من التحليق بالإبداع البصري عبر الكاميرا والحركة وتكوين المجموعات إلى آفاق الشعر.
ينوّه المؤلّف في تقديمه للكتاب إلى أن مؤلّفه هذا لا يقدّم دراسة عن السينما اليابانية، وليس سرداً كرونولوجياً لأفلام كيروساوا، وإنما هو بمثابة رحلة تركّز على ما هو جمالي يرقى إلى آفاق الشعر، ويحاول من خلال هذه الرحلة “توضيح كيفية الارتقاء من دون أن تفسد في الشعر شاعريته، ولا في الجمال جماليته.”
وإلى ذلك فإن القارئ سيطّلع على نبذة وافية عن حياة كيروساوا من خلال فصلين أوليين: أوّلهما يحمل اسماً طويلاً: “لوحة خارجية لحياة مخرج لا يزال يثير الحيرة”، فيذكر أهم المصادر والمراجع التي استقى منها ترجمته؟، وليتوقّف بعدها عند أهم المحطّات في حياته: الولادة، روح التمرد لديه، عمله في السينما كمساعد مخرج، الدأب والصبر، ثمّ عمله كمساعد مخرج في فيلم “الحصان” إلى فيلمه الأول “سانشيرو سوجات” عام 1943، والذي بتعبيره “يفصح عن تمكّن مدهش من الوسط السينمائي الذي يبدع من خلاله، فليس هناك أثر للتردد الأسلوبي أو الوقوع على تأثيرات الآخرين التي يجدها المرء أحياناً في الأعمال الأولى لبعض المخرجين.” ويذكر المؤلّف أن كوروساوا كان قد طوّر قدراته في كتابة السيناريو قبل أن يخرج هذا الفيلم.
وبُعيد الحرب العالمية الثانية يؤكّد المؤلّف أن أربعة من أفلام كوروساوا سوف تكرّسه كمخرج في اليابان وهي: “لا أحزان على شبابنا 1946” وهو أوّل فيلم مناهض للحرب ويتمتّع بجودة فنية حقيقية، و “أحد رائع 1947” و “الملاك السكّير 1948” و “الكلب الضال” حيث عالج من خلالها أثر الحرب على عاصمة اليابان طوكيو التي عجّت بالخراب والدمار واليأس.
وإلى ذلك فإنه في الفصل الثاني سوف يتناول جانبين مهمّين من حياة كورساوا: أوّلهما الهوية الثقافية اليابانية، وهو الموضوع الذي شغل اليابانيين على امتداد عقود طويلة، وليطرح بعدها جانباً من إشكالية المثقف والرأي العام أو السلطة الثقافية، ومن ثمّ الرؤية الاستشرافية لوضع الثقافة من قبل مخرج ومبدع عانى على نحو كبير من ضغط الرأي العام، فيقول: “يريدنا البعض أن نخرج أفلاماً عن أيّ شيء يكون رائجاً، ويتحدثون عن نوعية الأفلام التي تحظى بإعجاب الجمهور، وأنا أتفهم هذه المشاعر، ولكن الأعمال الجيدة تأتي نتيجة لوجود رؤية وقوّة تخيّل تنبع من داخل الإنسان الذي يبدع تلك العمال.”
وثانيهما: المؤثّرات الأساسية في تكوين كوروساوا الإبداعي بالاعتماد على كتابه “ما يشبه المذكّرات” حيث يذكر قرابة مئة فيلم أثّرت فيه بعمق في سنوات مراهقته وشبابه، وفي هذا الصدد يؤكّد المؤلّف أن “أوّل ما يلفت النظر في هذه الأفلام هو طابعها الانتقائي، ولكن في ضوء وَلَع كوروساوا بالكاميرا المتحرّكة، فليس عجيباً أن نجد “مورانو” يتصدّر قائمة أفلامه الأثيرة، غير ان الأمر الأكثر أهمية من ذلك هو أننا سنجد أنفسنا أمام سيرجي إيزنشتين وفيلمه الشهير “المدرعة بوتمكين” وأثره في “القلعة المحتجبة” من خلال الحشد الذي يموج على درج القلعة.”
وفي صدد التأثّر بإيزنشتين سوف يعزز المؤلّف رأيه من خلال جملة من الآراء المؤكّدة لذلك، ومنها رأي نويل بيرش صاحب كتاب “السينما: قاموس نقدي” بأنه الوريث الوحيد لإيزنشتين من حيث إنه أعاد تغيير اللقطة إلى وظيفتها الحقيقية، بحسبانها المعيار المرئي والمعلن للخطاب السينمائي.
وعلى كلّ حال سيذكر المؤلف أن كوروساوا سرعان ما يتوصّل إلى صوته الخاص ليطرح بعدها مجموعة من الأسئلة كان النقّاد قد طرحوها من قبل وأبرزها:
ـ في أيّ سياق يمكن إدراج أعمال كوروساوا؟
ـ ما أبرز القضايا التي تتناولها هذه الأعمال؟
ـ كيف يمكن تبرير أسلوبه الفنّي بكل ما يحفل به من متناقضات؟
وسوف يجيب المؤلّف عن هذه الأسئلة من خلال العودة إلى كتاب السيرة الذاتية “ما يشبه المذكرات” والذي بإمكان القارئ العودة إليه أيضاً.
الجانب الثالث الذي سيتناوله المؤلّف هو “أسطورة سيرة الحياة” وهو فصل ممتع يقدّم فيه المؤلّف نبذة موسّعة عن حياة كوروساوا، وأثر هذه السيرة في أفلامه، بحيث إن الباحث سوف يلتمس في هذه الأفلام شذرات من حكايات سيرته الذاتية، “لتشكلا بذلك ما يشبه الدائرة المغلقة التي يتبادلها الجانبان.
في القسم الثاني من الكتاب يتوقّف المؤلّف عند ثمانية أفلام لكوروساوا وهي:
1 ـ فيلم “سانشيرو سوجاتا” ومدّته77 دقيقة، ويبلغ طوله 6929 قدماً، عُرض لأوّل مرة في 25 مارس 1943، ويذكر المؤلّف أن كوروساوا هو الذي كتب السيناريو الخاص بالفيلم اقتباساً من رواية لتوميتا تسونيو.
2 ـ فيلم “الرجال الذين دهسوا ذيل النمر” عرض للمرة الأولى في 24 أبريل 1952، وكان قد أنجز في 1945، ومدّته 58 دقيقة وطوله 7366 قدماً، وهو أكثر إثارة من فيلم “سانشيرو سوجاتا” لأنه بتعبير المؤلّف يستمدّ مادته المباشرة من مسرحية “كانجينشو” وهي إحدى مسرحيات الكابوكي، التي تحظى بتقدير كبير، وعلى مسافة أبعد هناك مسرحية “أتاكا” التي تنتمي إلى مسرح النو، حيث يقدّم تصوّرين دراميين لحادثة تاريخية تنتمي إلى العصور الوسطى اليابانية.
3 ـ فيلم “لا أحزان على شبابنا”، بالطول الاستثنائي 9913 قدماً وبزمن قدره 110 دقائق، وقد عُرض لأوّل مرة في 29 أكتوبر 1946، وينفرد، لأوّل مرة، وجه نسائيّ فيه، ويتّخذ من مشكلة النفس موضوعاً له من خلال البطلة التي تبحث عن معنى لحياتها كفتاة تنتمي إلى البورجوازية، وأعدت للزواج من رجل ينتمي للطبقة ذاتها.
4 ـ فيلم “راشومون” الذي تناوله النقّاد كما يذكر المؤلّف بالكثير من الكتابة سلباً وإيجاباً، وسوف يستعرض بعضها وخصوصاً النقد الحاد الذي وُجّه للفيلم، لكي يبيّن وجهة نظره المدافعة عن الفيلم، سيما وأن “راشومون” حاز على الجائزة الكبرى لمهرجان البندقية عام 1951.
5 ـ فيلم “الساموراي السبعة” أشهر أفلام كوروساوا، والذي بدوره لم يسلم من الانتقاد العنيف، إلاّ أن المؤلّف يقدّم تحليلاً موسّعاً لهذا الفيلم، مستعرضاً في الوقت نفسه سائر القراءات التي تعرّضت له وخصوصاً الجانب الرمزي فيه، ومقدرة كوروساوا على نقل عمليات التمزّق والانتزاع من المكان الذي تحفل به هذه المرحلة من تاريخ اليابان إلى تجلّيات بصرية مدهشة، على حدّ تعبيره.
6 ـ فيلم “الحياة” الذي يعتبره الناقد ديفيد تومسون أفضل أفلام كوروساوا على الإطلاق، باعتباره يفصح عن عذاب حقيقي قلما تمّ التعبير عنه بهذا القدر من الوضوح. وقد عرض للمرة الأولى في 22 نوفمبر 1955، وتبلغ مدة عرضه 103 دقائق.
7 ـ فيلم “عرش الدم” الذي يتعرّض للحرب الأهلية اليابانية ما بين عامي (1467 ـ 1568) كخلفية تاريخية له، ولكنه في الوقت نفسه يقدّم صياغة بصرية راقية لرائعة شكسبير “ماكبث” وقد عُرض للمرة الأولى في 15 يناير 1957 وتبلغ مدة عرضه 110 دقائق.
8 ـ فيلم “القلعة المحتجبة” وهو أوّل فيلم من أفلام السينما سكوب (الشاشة العريضة) وفاز بجائزة مهرجان برلين الدولي وجائزة أفضل إخراج وجائزة النقاد لأفضل فيلم عالمي 1959 وجوائز شريط طوكيو الأزرق.
وختاماً يمكننا القول أن كتاب “الطريق الطويل إلى عالم أكيرا كوروساوا”، يقدّم إضاءات مهمّة عن حياة وأعمال كورساوا، يستفيد منها، بلاشك، سائر المهتمّين بالفن السينمائي والثقافي عموماً.