د.ك3.0
ثقافة الرأسمالية الجديدة _ ريتشارد سينيت
مؤلف هذا الكتاب هو البروفيسور ريتشارد سينيت الأستاذ المحاضر في كلية لندن للاقتصاد وفي جامعة نيويورك في آن معا. وهو أحد علماء الاجتماع المعروفين في العالم الأنغلو-ساكسوني. وكان قد نشر سابقا عدة كتب نذكر من بينها: دراسة في الاحترام، كرامة الإنسان في عالم يسوده الظلم واللامساواة (2003). وهو يعتبر الآن أحد كبار النقاد الاجتماعيين أو المفكرين النقديين على مستوى أوروبا كلها، وبالتالي فهو يندرج في خط ميشيل فوكو، وبيير بورديو، ويورغان هابرماس، وكبار المفكرين الآخرين. وفي هذا الكتاب الجديد يدرس المؤلف تحولات الرأسمالية منذ الستينات في القرن العشرين وحتى اليوم. وهو يقول منذ البداية بما معناه: لقد اشتهرت الستينات بانفجار الثورة الطلابية والجنسية والتحررية على كافة الأصعدة والمستويات في مجتمعات الغرب. ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن الانتفاضات العمالية ضد أرباب العمل والرأسماليين. ومعلوم أن الرأسمالية كانت آنذاك متحجرة وقمعية. وكانت تسجن الناس في مؤسساتها البيروقراطية أو في مصانعها التي تشبه الأقفاص الحديدية والسجون. وكان الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أول من انتبه إلى هذه الظاهرة ودرسها من خلال كتبه الشهيرة: تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، أو الجريمة والعقاب، وتاريخ الجنس، الخ. وقال ان الحداثة ارتدت على نفسها في عصر التوسع الرأسمالي. فبدلا من أن كانت تحررية في البداية أصبحت قمعية واستلابية في النهاية. وهكذا كشّرت الحداثة عن أنيابها وأخذت تطوّع الناس أجسادا وأرواحا عن طريق المؤسسات الرأسمالية: كالسجن، والمدرسة، والمصح العقلي، والمصنع، وبقية مؤسسات الدولة البيروقراطية. هذا دون أن نتحدث عن البوليس والأجهزة الأمنية التي تراقب الناس في كل شاردة وواردة. ثم يردف المؤلف قائلا: وقد نبه ميثاق اليسار الجديد في أميركا وأوروبا إلى الحقيقة التالية: وهي أن الأنظمة الشيوعية، والأنظمة الرأسمالية تسجن الناس في أقفاص من حديد سواء بسواء. وبالتالي فلا يوجد فرق يذكر بين الشيوعية والرأسمالية من هذه الناحية. ولكن هنا يطرح سؤال نفسه: إذا كان الأمر كذلك فلماذا سقطت الشيوعية إذن ولم تسقط الرأسمالية؟ ألا يعني ذلك أن هناك فرقا بينهما؟ في الواقع أن الرأسمالية على الرغم من وحشيتها واستغلالها للإنسان إلا أنها كانت تترك للإنسان هامشا معينا من الحرية. ولهذا السبب سقطت الأنظمة الاشتراكية ذات الخطط الخمسية الفاشلة اقتصاديا وبقيت الأنظمة الرأسمالية التي عرفت كيف تتأقلم مع الظروف والمستجدات الطارئة. كما وعرفت كيف تشبع طبقة العمال البروليتارية الرثة وتؤمن لها حياة استهلاكية معقولة على الرغم من الاستغلال الكبير الذي تتعرض له. والواقع أن هدف قادة العالم الرأسمالي اليوم كما قادة اليسار الأوروبي سابقا هو التخفيف من صرامة أو قساوة النظام البيروقراطي الذي يتحكم بالناس أو يضغط عليهم ويكاد يخنقهم خنقا. وهنا يكمن الفرق بين الرأسمالية القديمة والرأسمالية الجديدة. ثم يردف المؤلف قائلا: كان اليساريون من أمثالي يحلمون في الستينات بعصر تزول فيه البيروقراطية الرأسمالية وتتفكك المؤسسات أو الشركات الكبرى التي تسحقنا سحقا لكي تحل محلها أماكن عمل جديدة أكثر إنسانية. ولكن هذا الحلم لم يتحقق بعد أربعين سنة إلا جزئيا جدا في الواقع. صحيح أن ظروف العمل أصبحت أفضل بالنسبة للعامل. صحيح أنه حصل على حقوق جديدة ما كان يحلم بها سابقا، ولكن أماكن عمله اليوم تشبه محطات السيارات والكراجات أكثر مما تشبه القرى والمزارع والأماكن الإنسانية الجميلة التي كنا نحلم بها. وهكذا تحطمت المؤسسات الكبرى وتحطمت حياتنا معها. نقول ذلك على الرغم من أن الخمسين سنة الماضية كانت حافلة بالإنجازات الاقتصادية التي لا سابق لها ليس فقط في الغرب الأوروبي الأميركي وإنما أيضا في آسيا وأميركا اللاتينية. نعم لقد تزايدت ثروات البشرية أضعافا مضاعفة طيلة هذه الفترة المزدهرة من تاريخ البشرية، ولكن المشكلة هي أن توزيع الثروة خاطئ أو قل غير عادل على الإطلاق. إنه غير عادل على مستوى الدول والمناطق وغير عادل داخل كل دولة وكل منطقة على حدة. فالثروة متراكمة ومتمركزة أساسا في أميركا الشمالية، واليابان، وأوروبا الغربية. في هذه المناطق الثلاث توجد ثلاثة أرباع أو حتى أربعة أخماس الثروة العالمية. نقول ذلك على الرغم من أن عدد سكانها لا يتجاوز المليار شخص على أكثر تقدير. وبالتالي فهذا المليار يمتلك 80 بالمئة من الثروة البشرية، في حين أن الخمسة مليارات الأخرى لا تمتلك إلا عشرين بالمئة! هنا تكمن المشكلة الأساسية للرأسمالية الجديدة التي تحكم العالم اليوم. ثم نلاحظ أن الظلم والتفاوت الصارخ في الثروة سائد داخل كل الدول غنية كانت أم فقيرة. بل وحتى في بلد غني جدا كالولايات المتحدة يوجد أكثر من أربعين مليون شخص يعيشون تحت مستوى خط الفقر. وهناك مليار شخص تقريبا على حافة الجوع: أي يعيشون على أقل من دولار في اليوم. وهناك مليار آخر أفضل قليلا، وبالتالي فإن أزمة عالم اليوم تعود الى سوء توزيع الثروة وليس إلى نقص الثروة وزيادة عدد البشر كما يزعم بعضهم من أتباع مالتوس. فالكرة الأرضية بثرواتها الحالية تستطيع أن تطعم اثني عشر مليار شخص وليس فقط ستة مليارات شخص، أي عدد سكان العالم حاليا. ثم يتحدث المؤلف عن تجربته الشخصية ويقول بما معناه: لقد كنت أنتمي إلى ما يدعى في الولايات المتحدة أثناء الستينات من القرن الماضي باليسار الجديد. وبعدئذ انخرطت في دراسات سوسيولوجية ميدانية لفهم طبيعة المجتمع الأميركي والرأسمالية المعاصرة. وتركزت تحرياتي الميدانية على العائلات العمالية في مدينة بوسطن، وهي عائلات تنتمي إلى الجيل الثاني أو الثالث من المهاجرين إلى أميركا. وقد نتج عن ذلك كتاب بعنوان: الظلم الطبقي الفاحش المخبوء. لم يكن هؤلاء الناس مظلومين أو مقموعين من قبل البيروقراطية وإنما كانوا مترابطين مع بعضهم البعض بعرى مؤسساتية وثيقة وقوية. فقد كانت هناك نقابات عمالية مستقرة، وشركات كبيرة، وأسواق ضخمة لكي ترشدهم إلى عملهم وإلى ما ينبغي أن يعملوه. وضمن هذا الجو كان أبناء الطبقة العمالية يحاولون جاهدين أن يخلعوا معنى على موقعهم الاجتماعي داخل المجتمع الأميركي: أي داخل مجتمع لا يعترف نظريا بالتفاوتات الطبقية ولا يحتقر أبناء الطبقات الشعبية كما يحصل في فرنسا مثل أو معظم بلدان أوروبا.فهناك توجد حواجز هائلة ولا يمكن اختراقها بين طبقة الأرستقراطية، وطبقة البورجوازية، وطبقة الشعب. ولكن الكلام شيء والفعل شيء آخر. فالواقع أن المجتمع الأميركي ظالم جدا وقاس بالنسبة للفقراء أو لأولئك الذين لم ينجحوا في الحياة كما يقال. إنه بلد مليء بآلاف المليارديريين وعشرات الآلاف من المليونيريين وربما أكثر. ولكنه أيضا بلد الفقر المدقع لأولئك الذين تركتهم الرأسمالية الجديدة (أو الليبرالية الجديدة) على حافة الطريق. وبالتالي فالعولمة الأميركية ظالمة ومجحفة ليس فقط بالنسبة للشعوب الأخرى، وإنما أيضا للشعب الأميركي نفسه. ويمكن أن نقول الشيء ذاته بالنسبة للعولمة الأوروبية وإن بدرجة أقل لأن الرأسمالية الأوروبية أقل وحشية وقسوة من الرأسمالية الأميركية. ففي أوروبا هناك الضمان الصحي والضمان الاجتماعي ويحق لأي شخص أن يتداوى حتى ولو لم يكن يمتلك في جيبه فلسا واحدا. وبالتالي فالمجتمع الأوروبي يظل أكثر إنسانية من المجتمع الأميركي، بلد الرأسمالية بامتياز.