السعر الأصلي هو: د.ك3.5.د.ك3.0السعر الحالي هو: د.ك3.0.
في حضرة الغياب محمود درويش
بكلمة (نصّ) المثبتة أسفل العنوان على غلاف الكتاب، يحاول محمود درويش أن يبعد قارئه عن حيرة التصنيف، ليتعامل مع المادة المكتوبة كلحظة تخطّ للحدود بين الجنسين الأدبيين اللذين تمايزا بنائياً مع بداية انفكاك الأجناس ما بين العالم القديم والعالم الجديد بثقافتيهما وآليات تفكيرهما. وبهذا المعنى، فإن نصّ «في حضرة الغياب» أشبه بالعودة إلى الوراء بضع خطوات، ليسافر في زمن الملحمة وأبعادها الرمزية والتراجيدية، على اعتبار أن الملحمة مازالت تعتبر الأرضية المشتركة التي ينطلق منها الأدب وخصوصاً في شكله الروائي، وهي إلى ذلك مازالت حاضرة في الوجدان الجمعي بكلّ غناها البنائي والدلالي.
إنها تجربة جديدة تستعيد الموروث السومري وربّما رحلة جلجامش تحديداً من ناحية بنائية النصّ، حيث يتناوب السرد والشعر على تقديم الحكاية بالشكل الذي وصل إلينا. السرد الجميل الناهض على بنية حكائية سيرية سيمنح الشاعر إمكانية التحرر من ضغوطات الجملة الشعرية الغنائية بأوزانها وتفاعيلها وإنشائيتها المأثورة عنه، وربّما نحو شكل وأسلوب قصيدة النثر، سيما وأن البنية السردية هنا تنهل من معين السيرة الذاتية لشاعر مبدع ومثقف مشهود له بقراءاته الواسعة وبتمثّله للتراث الإبداعي العربي والإنساني، وتنهل من معين سيرة الشعب الفلسطيني، وفلسطين التي استباحها الليل فبعثر سكانها في المنافي.
وإذا كان النص الملحمي تنهض بنيته على المزاوجة ما بين السرد والشعر في لغة خاصّة، فإن نصّ محمود درويش ينهض بدوره على فعل السرد وفي لحظة درامية قدرية مشابهة، ونعني بالقدرية هنا: صراع البطل أو البشر مع القوى الغامضة والمصائر التي ستنجم عن هذا الصراع غير المتكافئ في زمن واضح ومعلوم، هو الزمن الحديث، وليس زمن الملاحم والأساطير، ولكنه مع ذلك يشبهه كلّ الشبه من حيث منطق القوّة وممارسة العنف، واستعباد أو تهجير الشعوب بفائض من القوّة والغطرسة بدعوى الحقّ الإلهي.
ومن هنا، فإننا لا نميل نحو الآراء المعرّفة للنصّ بأنه نصّ رثائيّ اعتماداً على تصدير الشاعر لكتابه ببيت مالك بن الريب:
يقولون لا تبعد وهم يدفونني وأين مكان البعد إلاّ مكانيا
ومعروف أن مالك بن الريب هو أوّل شاعر في التراث العربيّ عانى من الاغتراب فرثى نفسه قبل الموت، ولكن شتّان ما بين النصّين سواء في البنية النصّية أو في المضامين المنشودة، فقصيدة ابن الريب غنائية رثائية بسيطة، بينما نصّ محمود درويش سيرتقي بموضوعة الاغتراب أو الغياب إلى أبعاد تراجيدية وملحمية توضّح آثاره المختلفة على الذات الإنسانية المبعدة عن أرضها قسراً، وفي رؤية فلسفية تدرك مقدار العطب الذي أصاب ضمير الإنسانية، فتعبّر عن كلّ ذلك خير تعبير.
وإلى ذلك لا يمكننا اختزال موضوعة الغياب في الجانب الذاتي للشاعر وخصوصاً في هذا النصّ المركّب، وإنما في أسباب هذا الغياب، وفي آثاره المدمّرة لذوات شعب أقصي عن أراضيه ومدارج طفولته قسراً، وبالتالي فإن ارتباط الخاص بالعام سيكون هنا ضرورة بنائية ووجدانية أيضاً، بينما في الجدارية قصيدته الطويلة المعروفة، كنا التمسنا هذا الشعور المتزايد بلحظة الغياب ذاتياً، بمعنى غياب الجسد وفنائه فراح الشاعر يواجه الموت بمزيد من الكتابة،
وقلنا: إن محمود درويش مثله مثل جلجامش مغبون بهذه المعادلة العمرية المكتوبة على البشر، وربّما هو يحتاج عمراً إضافياً، أو عمرين لكي يواظب على صياغة ملحمته الخاصّة وتأريخ اللحظة فنياً، ولكنه من البشر وقد حكمت الأقدار أن يعيش فترة محدودة من الزمن، ولذلك فإنه سوف يتصدى للموت بمزيد من الإبداع لتغدو أعماله الشعرية بمثابة القلعة الصامدة بوجه الموت لآلاف من السنين القادمة تماماً كملحمة جلجامش.
ومن هنا فإننا نظنّ أن الاستهلال الذي تحدث عن موت الجسد في النصّ الجديد، إنما هو لغرض بنائي بحت، بحيث يتمكن الكاتب السارد من السيطرة على الخطاب وتوجيهه الوجهة التي يشاء من حيث المقارنة، على نحو خاص، بين الجسّد المعطّل والذات الشاعرة الذي ظلّت حاضرة وبكامل وعيها، لتسافر بنا خفيفة كنسمة في ممالك اللغة الفيّاضة بإبداعها الخاص ذي النكهة الدرويشية إياها؛ النكهة التي تدوم طويلاً حتى بعد الانتهاء من قراءة الكتاب. سنقرأ عن محمود درويش الطفل الذي ولد في قرية صغيرة وعن حياة الأهل فيها، وعن الطبيعة الأم الحاضنة والمعلّمة، فيتعامل مع مفرداتها مبكراً: الخضرة والفراشات أو (المشاعر الطائرة) والثعالب والذئاب والضباع وفوق كلّ هذا عوالم الضوء وطيوفه المدوّخة.