د.ك3.5
لماذا تقدم العلم وتأخر الوعي؟ ج1 (العقل) عادل المعلولي
لماذا تقدم العلم، وتأخر الوعي؟ هذا عنوان لكتاب صدر حديثًا، قد يبدو العنوان غريبًا للبعض، ومدهشًا للبعض الآخر، ولكنه يبقى عنوانًا يحمل سؤالاً عميقًا ومهمًا على كل حال، لأنه سؤال اللحظة الراهنة. والمؤلف في هذا الكتاب كأنه امتثل لنصح الحكمة القائلة: “لا يؤلف أحدًا كتابًا إلا في أقسام سبعة: يؤلف في شيء لم يسبق إليه ـ يخترعه، أو في شيء ناقص يتممه، أو في شيء مستغلق يشرحه، أو في شيء طويل يختصره، أو في شيء مختلط يرتبه، أو في شيء أخطأ فيه مصنفه يبينه ثم يصححه، أو في شيء مفرق يجمعه”. والكتاب الذي نحن بصدد التعريف عنه (لماذا تقدم العلم وتأخر الوعي؟ الجزء الأول: العقل) كادت فصوله وأبوابه تحوز النصائح السبع التي حثت عليها تلك الحكمة، لأن المؤلف ابتعد عن تكرار الأفكار والمفاهيم المكررة، بل سعى إلى استحداث إيقونات فكرية يغلب عليها طابع التساؤل.
والكاتب في هذا الكتاب يؤكد وبكل قوة فكرة أن: تقدم البشرية وتقدم الوعي بعدين مختلفين تمامًا. وقد أحسن المؤلف حين بحث في الفصل الأول عن ماهية العقل وعن منافذه الحسية، لعلمه بأن العقل هو الركيزة والخطوة الأولى في أولية البحث عن سؤال الوعي. أحسن حين نظر إلى العقل من خلال عدة مناظير مستعينًا بالفكر الفلسفي المتسائل. حيث أقلع الكاتب بالقارئ عبر الفصل الأول من ميناء العقل إلى موانئ الوجدان الأخرى. فبعد أن عَرَفَ الكاتب ما هو العقل من منظور فلسفي وعلمي أوغل في متاهات الحس المتنوعة، حيث تحدث عن آلية عمل الحواس مثنيًا بعدها على آلية عمل الذاكرة منتقلاً إلى الفصل الثاني بعد أن أفرغ فكرته على بساط البحث بصورة أوفت على الغاية. وما أن ينتهي القارئ من وداع الفصل الأول، إلا ويستلمه الفصل الثاني بكل رحابة ويسر، وكأن الفصل مرشد بارع يجتهد في شرح وتبيان معالم الأفكار التي يتضمنها، حيث يطوف الكاتب بالقارئ فوق تلال آفات العقل المدببة شارحًا إياها آفة آفة، حيث عد الكاتب: هوى النفس، والمسكر، والعادة والتقليد، والأمل المتطرف من آفات العقل الخطيرة. ثم بعد ذلك ينقل الكاتب القارئ عبر الفصل الثالث إلى محطة: العقل بين الوعي والغريزة، ففي هذا الفصل يتحدث الكاتب عن جدلية العقل بين الوعي والغريزة شارحًا فكرة هذه الجدلية بطريقة سهلة وعذبة، مكللاً التعريفات والأفكار بأمثلة منطقية تساعد على استيعاب فكرة هذا الفصل، بل لم يكتفي المؤلف بكل تلك الأمثلة حين حوَّل بعض المفاهيم إلى أسئلة أشرك فيها القارئ في عملية التفكير مستثيرًا فيه حواسه الناقدة، ومثال ذلكً حين عنون مدخل احدى فقرات الفصل بسؤال: هل العقل فراشة والغريزة شعلة مصباح؟
لا ريب في أن الكاتب البارع هو الذي يستطيع خلق مساحة فكرية كمتنفس تأملي تعين القارئ على رحلة القراءة, وذلك من خلال ترطيب سطور الكتاب بالأسئلة والإشارات الذكية التي تثير في القارئ حفيظته الناقدة. فالكاتب الذي لا يترك في نفس وفكر القارئ حفر وأخاديد هو كتاب عقيم، أما هذا الكتاب فنأمل منه أن يحدث في نفس القارئ الرجة المناسبة التي تقذف بالغث الكامن خارجًا لتستبدله بالنافع الحسن.
أما الفصل الرابع من الكتاب، فقد خاتل فيه المؤلف القارئ وأخذه على حين غرة إلى مقابلة الواقع العربي مقابلة غير سارة، حيث عنون إحدى فقرات الفصل بعنوان موجع حد الألم حين قال: إذا كان الواقع حطبًا يحترق، ما المستقبل إلا بساطًا من رماد. فتحت هذا العنوان المرعب يقول: لو سأل العربي نفسه هذا السؤال، لماذا أمس العرب أفضل من يومهم، وغدهم أسوأ من حاضرهم؟ لكان جوابه على هذا السؤال، سهلاً من الناحية التبريرية، صعبًا من الناحية الواقعية والتاريخية. الجواب مريح من الناحية العاطفية، ولكنه مخجل من الناحية المنطقية…. الخ.
وفي المجمل الكتاب كُتب بطريقة أدبية ماتعة رغم فصوله الفكرية المتشابكة، حيث يتضح من نص الكتاب بأن المؤلف يمتلك القلم النادر في الكتابة، ذلك القلم الذي مداده الفكر وقوامه الأدب، لاسيما وأنه قد طغى على المصنفات الفكرية والفلسفية الحديثة ظاهرة عدم مواكبة النص المكتوب مع الأفكار المطروحة، بمعنى آخر، أي كلما كانت أفكار المبحث كبيرة أو علمية تقل مرونة وطلاوة النص الذي كتب به تلك الأفكار، ولكن هذه المثلبة لن يجدها القارئ مع هذا الكتاب الذي بين أيدينا.
وما هذا الإطراء الذي قدمنا به الكتاب، إلا محاولة شخصية لفهم رسالة هذا الكتاب، أما الحكم الأول والأخير فهو متروك لتقدير القارئ. وأرى بأن معالم الكتاب الكبيرة لن تتضح إلا بعد أن تتدفق أجزاءه المتبقية إلى حيز الوجود، حينها يمكننا أن نقول كلمتنا الأخيرة في حق هذا المبحث الكبير، مبحث لماذا تقدم العلم وتأخر الوعي؟ راجين أن يكون جواب هذا السؤال بحجم السؤال ذاته. متمنين أن يشكل هذا الكتاب إضافة حسنة إلى الثقافة العربية وإلى القارئ العربي.