د.ك12.0
بعث العراق طالب الحسن
كو
يحمل تاريخ العراق الحديث، الكثير من الغرائب والمفاجآت حين نقلب صفحاته بهدوء واتزان وحياد. العراق بعد دخوله اربعينيات القرن الماضي، تغيرت ملامحه كثيرا ويحتاج وقفات من التامل التي ترقى الى البحث والتقصي.
ينقب الباحث طالب الحسن في اسرار وخبايا الصفحات الغائبة عن التاريخ ليظهرها في كتابه الجديد (بعث العراق من البداية المريبة حتى النهاية الغريبة) الذي شغل من وقته خمس سنوات وهو مشدود الى اكماله ليظهر الى القراء بهذا الشكل الذي ظهر عليه. في الكتاب ثمة تحليل وتدقيق لمرحلة مهمة من تاريخ العراق.. انه تاريخ معروف اعلاميا وظاهريا لكن خفاياه المعززة بالوثيقة والاسانيد والصورة والمقابلة الشخصية مع اصحاب الشأن، كانت مفاجاة حين نتلمس ما حدث من جزيئيات وتفاصيل مرت بالعراق اثناء تاسيس البعث فيه في فترة الاربعينيات وما تلاها. وهو ما كان مادة كتاب الباحث طالب الحسن المليء بغرائبيات الاسرار التي لم تعلن او يبوح بها احد من قبل وظلت حبيسة الصناديق المقفلة حتى كادت ان تنسى ويعفى عليها الزمن.
في الكتاب ثمة تاريخ يظهر بثوب اخر، حين يكون مكتوبا لاول مرة ومعززا بالوثيقة الرسمية المخفية كل تلك العقود وتحديدا منذ اعلان بعث العراق على ايدي زمرة من صبيان السياسة ومراهقي الفكر االمازوم والباحثين عن المغامرة والمناصب، (اذ اتسم بالكراهية والعدوان واستئصال الاخر وهي اعراض قاتلة اذا تمكنت من اية جماعة تسوقها الى حتفها المقدر ومصيرها البائس الذي ينتظهرها ص 8). ضم الكتاب احد عشر فصلا تناول في اغلبها بدايات التأسيس الاولى منذ عام 1940. فيتوجه في صفحاته المتوزعة على مدى 582 صفحة من القطع الكبير، نحو ستراتيجية اظهار الحقائق المغيبة عن تاريخ بعث العراق.
وهو ما كان من امر الباحث الذي التقى بالبعثيين الاوائل الذي كانوا شهودا على تأسيس بعث العراق من السوريين امثال الشاعر سليمان العيسى وزميله ورفيقه فائز اسماعيل صاحب كتاب بدايات حزب البعث في العراق. الذين اعترفوا بشكل واضح بدورهما في تلك المرحلة مع مجموعة من تلامذة زكي الارسوزي المؤسس الاول للبعث فيقول سليمان العيسى (لا اذكر تاريخ ذلك اليوم، فلم نكن لنسجل مثل هذه الاحداث، ونحن طلاب في الثانوية، ولكن رفاقنا الكبار يذكرونه ويعرفونه بلا ريب.. كان يوما من شتاء 1940، بادرنا الاستاذ الارسوزي بقوله: لقد انشأنا اليوم حزبا عربيا جديدا.. لقد اسسنا حزب ” البعث العربي ” ورفاقكم في الجامعة سيتصلون بكم، ويوزعون عليكم المهمات.. كل منكم ـ بالطبع ـ عضو في هذا الحزب، حزب البعث العربي، منذ الان هيئوا انفسكم للرسالة.. واستعدوا للعمل. قررنا ان نبدا عمليا بناء الوطن العربي الواحد، والدولة العربية الواحدة.. ص 42).
ينطوي ذاك التاسيس على الكثير من المفارقات والتناقضات في طروحاته بين مؤسسيه الذين دأبوا على اطلاق التصريحات التي تبين هوية الحزب منذ البداية، في حين كان البعض يترصد الفرص للإطاحة برفاقه ليستلم بعدها قيادة الحزب دون عناء يذكر كما هو حال ميشيل عفلق الذي تسلم زمام المبادرة بعد اربع سنوات على مرحلة التأسيس التي قام بها غيره. انهم مجموعة من المغامرين سياسيا ومتاجرين بافكار غريبة لا يمكن ان تكون سوى مراهقة فكرية أدت الى ارتجال المرحلة ارتجالا واضحا دون بلورة سياسة ثابتة مما ادى الى ارتباك وفوضى بين رفاق التاسيس الذين ما لبثوا ان اختلفوا حول السياسة التي يجب اتباعها في حينه (كان زكي الارسوزي يرفض اللقاء بعفلق وجماعته ويقول “اذا احضرتم هؤلاء الناس فانني ساترك الحزب وابقى اناضل من اجل افكاره فقط، هؤلاء ليسوا جديرين بالقيادة ص47) فادى بالتاكيد الى تراكم الاخطاء وبالتالي ضياع الهدف الذي كان يتوخاه الاوائل من حزبهم في ساحة المطارحات الحزبية.جاء كتاب بعث العراق من البداية المريبة حتى النهاية الغريبة بمثابة ضوء سلطه المؤلف على مرحلة خطيرة من تاريخ العراق السياسي المعاصر عندما اماط الثام عن فترة حرجة من الزيف والصراع الخفي من قبل عصبة من التلامذة الموتورين الباحثين عن امجاد وصيت طالما حلموا بالحصول عليها.. يبدأ الفصل الاول بعنوان مثير هو دور زكي الارسوزي في تاسيس البعث، وهو ما يؤكده الارسوزي (اما حزب البعث فانا الذي اسسته، لا ميشيل عفلق ولا صلاح البيطار، كما هو معروف عند الناس، فقد بدات بتاسيسه عام 1934.) ص 34.
ويتضمن الفصل ايضا شهادات تلامذة الارسوزي في مرحلة التاسيس مثل شهادة وهيب الغانم وسامي الجندي وسليمان العيسى. اما الفصل الثاني فحمل عنوان فرصة عفلق، فيقول المؤلف: في عام 1943 لاحت امام عفلق فرصة مؤاتية باعتزال زكي الارسوزي العمل الحزبي، وانصرافه الى التاليف والعمل الفكري ولتاثر انصار عفلق وتلامذته بافكار الارسوزي وشخصيته وحيويته، اطلق فورا تسمية حزب البعث العربي على حركته التي كانت تسمى ب(الاحياء العربي) قبل هذا التاريخ ص59. ولم يتوقف زكي الارسوزي عن نقده لميشيل عفلق وتجربته، كما كان يكرر من دون انقطاع انه مؤسس البعث العربي وان عفلقا سرق منه الاسم والحزب معا مرددا دائما ان ميشيل عفلق هذا خسره الادب وابتليت به السياسة ص100. وفي الفصل الثالث الذي يحمل عنوان تقييم عفلق، يتناول الفصل قيادات بعثية تقيم عفلق، فيتساءل المؤلف هنا قائلا: ماذا يبقى من عفلق امام هذا السيل الجارف من النقد لسلوكه وسيرته. وهل يصلح هذا السلوك المنحرف والسيرة السيئة ان يكون قدوة ومثلا اعلى لملايين العرب ص132. ويسرد المؤلف شهادات بعناوين فرعية في باطن الفصل وهم: حازم جواد يخرج عن صمته، خالد علي الصالح يشخص عفلقا، احمد حسن البكر يسخر من عفلق، هاني الفكيكي ينتقد عفلقا، رأي طالب شبيب بعفلق، القيادي السوري احمد ابو صالح يهاجم عفلقا.
الفصل الرابع الذي حمل عنوان تقييم عفلق من خارج قيادة البعث. وفيه ليث شبيلات يقيم عفلق وحسن العلوي يقدم تقييما هو الاخرى بعفلق.
ويورد المؤلف رايا للشاعر بدر شاكر السياب بعفلق حين يقول عنه هو ثروة من ثروات الامة الخيرة التي انجبت الانبياء والصديقين والشهداء والمفكرين والابطال والشعراء ص 173. في الفصل الخامس يؤشر المؤلف عن مؤتمرات الحزب التي وصفها بمصيدة الرفاق فيما يتطرق في الفصل السادس اوائل من انتموا للحزب في العراق وهو عبد الرحمن الضامن والفصل السابع يتطرق المؤلف الى ابي القاسم محمد كرو وهو احد الذين تولوا مسؤولية التنظيم في العراق وفي الفصل الثامن يتطرق الى الدكتور فخري ياسين قدوري الذي تسلم مسؤولية الحزب في العراق عام 1952.
وفي الفصل التاسع يتكلم المؤلف عن فؤاد احمد الركابي وهو خامس من استلم مسؤولية التنظيم في العراق. فيما يتطرق في الفصل العاشرالى الاسكندرونيين الذين نقلوا البعث العربي الى العراق. وفي الفصل الحادي عشر يكتب عن انتشار حزب البعث في المدن العراقية.
ويخلص المؤلف الى القول (في حدود ما قرات، وقد قرات الكثير، انه لا يوجد حزب سياسي في الوطن العربي تبرأ منه قادته او نعتوه بشتى صفات النعوت الذميمة، او قاموا بتقييم آثاره واعتبروا عملهم فيه من التجارب الفاشلة كما جرى لحزب البعث على لسان قادته). انها محاولة في رصد واقع سياسي عاشه العراق في حقبة الاربعينيات وما بعدها ليرسم لنا الباحث طالب الحسن خارطة جديدة للتاريخ المعاصر لم تغب اثارها بعد. وهي اعادة رسم الاحداث بلغة البحث الدقيق والتنقيب في زوايا لم تصلها اقلام المؤرخين بعد. تضمن الكتاب مجموعة من الملاحق والرسائل والصور النادرة وقوائم باسماء المنتمين للحزب من الطلبة في سوريا ولبنان. كتاب الباحث طالب الحسن هذا يعد اضافة نوعية للمكتبة العراقية والعربية بعد ان صرف خمس سنوات في اعداد وثائقه وكتابته.